اخبار منوعة

عندما يصبح التوقف ضرورة

عمرو العرباوي – مدير النشر
في عصر يُقاس فيه النجاح بسرعة الإنجاز، وفعالية الحضور، واستمرارية الأداء، يبدو أن الدعوة إلى “الاستراحة” أو “التوقف المؤقت” أشبه بنداء ضد التيار، لكن هل حقًا التوقف ضعف؟ هل التباطؤ نوع من الهروب؟ أم أن فيه من الحكمة ما يغيب عن أعيننا المُجهدة في سباق لا ينتهي؟
إن الحديث عن الاستراحة لم يعد ترفًا، بل أصبح ضرورة وجودية ونفسية، بل وفلسفية في بعض جوانبها، فبين ما يُمليه الواقع، وما تفرضه طبيعة الإنسان، تظهر الحاجة إلى التوقف كفعل واعٍ، لا كاستسلام.
فمنطق التوقف ضد ثقافة “العمل المستمر”كيف يمكن تفسير هذه المفارقة ؟
أولا : حين يُقاس الإنسان بالإنتاج فقط
نعيش اليوم في مجتمعات تُقَيِّمُ الفرد من خلال إنتاجيته فقط، العامل الناجح هو من لا يعرف الراحة، والمدير الجيد هو من يشتغل حتى العطل، والمبدع الحقيقي هو من يُنتج بلا توقف ، الإعلامي البارز هو من لايتوقف عن نشر الأخبار، لكن هذا النموذج يتجاهل بُعدًا أساسيًا في الطبيعة الإنسانية، الإنسان كائن محدود الطاقة.
ثانيا : الضغط النفسي والإرهاق الذهني
تشير الدراسات النفسية الحديثة، إلى أن الإجهاد المزمن يؤدي إلى متلازمة الإرهاق (Burnout)، وهي حالة فقدان تدريجي للقدرة على التركيز، الحماس، والإنتاج، ويكمن الحل في التوقف المؤقت، لا في دفع النفس إلى حدود الانهيار.
ثالثا: الاستراحة كفعل بناء لا كاستسلام
1-التوقف لتجديد الطاقة ، فالجسد والعقل يحتاجان إلى التوقف لاستعادة التوازن، تمامًا كما يحتاج الرياضي إلى أيام راحة بين التمارين المكثفة، يحتاج العقل إلى مساحات من الفراغ لينتج أفكارًا جديدة.
-العقل المرهق لا يُبدع.
-الجسد المتعب لا يُنتج.
2-لحظة تأمل ومراجعة، فالاستراحة تمنح الإنسان المسافة الكافية ليعيد التفكير في المسار: هل ما أفعله اليوم يقودني حيث أريد؟ هل أنا أعيش وفق أولوياتي، أم أنني أركض في سباق لا أفهم نهايته؟
رابعا : توقف الأنبياء والعظماء… دروس من التاريخ
-فالرسول محمد (صلى الله عليه وسلم،  كان يختلي بنفسه في غار حراء بحثًا عن المعنى قبل أن يبدأ دعوته.
-بوذا جلس تحت شجرة التين المقدس أيامًا قبل أن يُكوّن فلسفته.
-ستيف جوبز مؤسس “أبل” أخذ استراحة طويلة من العمل بعد خروجه من الشركة، عاد بعدها بمفاهيم غيّرت عالم التكنولوجيا.
فالاستراحة ليست انسحابًا، بل في كثير من الأحيان، هي الشرارة التي تسبق الانبعاث من جديد.
خامسا: أنواع الاستراحة… ما بين الجسدي والنفسي والروحي
1-الاستراحة الجسدية: تُعنى بالنوم، الغذاء الجيد، والابتعاد عن الإرهاق البدني.
2-الاستراحة الذهنية: تتجلى في الانفصال عن الشاشات، الأخبار، والأفكار المكررة, المشي، التأمل، أو حتى الملل أحيانًا، يعيد تشغيل الدماغ.
3-الاستراحة الروحية: وهي الأكثر عُمقًا، حيث يتأمل الإنسان موقعه في الحياة، وعلاقته بالوجود، والقيم التي يوجه بها حياته.
سادسا : متى يكون التوقف ضارًا؟
فرغم فضائله، إلا أن الإفراط في التوقف قد يتحول إلى نوع من الهروب من المسؤولية أو الكسل المقنّع، فالتوقف المفيد هو ذلك المبني على الوعي، لا على الخوف أو الإحباط
“ليس كل من يتوقف تائهًا، وليس كل من يستمر ثابتًا.”
مخرجات هذا المقال ،  في ثقافتنا المعاصرة، نحتاج إلى إعادة تعريف النجاح لا بوصفه استمرارًا دون توقف، بل بوصفه توازنًا بين العطاء والتوقف، بين العمل والاستراحة، بين الإنتاج والتأمل، أن تأخذ استراحة لا يعني أنك تتراجع، بل يعني أنك تستعد لقفزة أعمق، وربما أوضح، فهل نمتلك الشجاعة اليوم لنتوقف، لا لنهرب، بل لنعيد الإنصات لأنفسنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى