النقاش العمومي الوطنجي بين الفرقاء السياسيين عندما تتحول الوطنية إلى أداة تعطيل لمسيرة التنمية

ذا عمرو العرباوي/مدير النشر
حتى يكون القارئ على دراية كاملة بمفهوم الوطنجية ، ارتأيت قبل الدخول في تناول الموضوع تحديد معناها اللغوي والاصطلاحي .
يُفترض أن يكون النقاش العمومي بين الفاعلين السياسيين فضاءً صحياً للتدافع الفكري، والتنافس البرامجي، وتقديم البدائل التي تخدم مصلحة الوطن والمواطن، غير أن الواقع السياسي المغربي اليوم يكشف عن ميل متزايد نحو “الوطنجية”، أي استعمال الوطنية بشكل مبالغ فيه أو توظيفها كخطاب شعبوي يُقصي الخصوم ويصنع شرعية مبنية على الشعارات بدل الإنجازات. هذا التحول الخطير جعل النقاش العمومي ينزاح عن جوهره، ويصبح أحياناً عبئاً على مسار التنمية بدل أن يكون محرّكاً لها.
الوطنجية: من قيمة نبيلة إلى خطاب شعبوي
الوطنية في جوهرها قيمة سامية تُعزز الانتماء وتدفع نحو خدمة الصالح العام، لكن “الوطنجية” تُحوّل هذه القيمة إلى أداة للمزايدات السياسية، حيث يتم تضخيم الخطاب العاطفي على حساب التفكير النقدي، ويتم استعمال مفردات التخوين أو الاحتكار الرمزي للوطن للدفاع عن مواقف سياسية محدودة الأفق.
في هذا السياق، لا يصبح النقاش حول السياسات العمومية أو الإصلاحات الاقتصادية نقاشاً معرفياً، بل يتحول إلى سباق لاكتساب صفة “الأكثر دفاعاً عن الوطن”، ولو على حساب الحقيقة والرؤية العلمية.
كيف يعطل هذا الخطاب مسيرة التنمية؟
1-تغييب النقاش العقلاني والبدائل الواقعية:
حين يتم اللجوء إلى الخطاب الوطنجي، يتم إقصاء النقاش المبني على الأرقام، والمؤشرات، والتخطيط الاستراتيجي، تتحول الطاولات السياسية إلى ساحات صراخ، وتتعطل القدرة على إنتاج حلول فعلية لمشاكل التشغيل، والتعليم، والعدالة الاجتماعية، والنمو الاقتصادي.
2-صناعة الانقسام بدل وحدة الجهود:
التنمية الشاملة تحتاج إلى توافقات كبرى بين الفرقاء السياسيين والمؤسسات، لكن الخطاب الوطنجي يعمّق الاستقطاب، إذ يحاول كل طرف الادعاء بأنه صاحب الدفاع الأوحد عن “المصلحة الوطنية”، مما يخلق شقاقاً سياسياً يُعرقل التنسيق والانسجام المطلوبين لإنجاز الإصلاحات.
3-تبرير الإخفاقات السياسية:
أحياناً يُستعمل الخطاب الوطنجي كآلية للهروب من المحاسبة، فعوض الاعتراف بالاختلالات أو فشل السياسات العمومية، يتم اللجوء إلى لغة العاطفة، وربط النقد بـ”التشكيك في الوطنية” أو “خدمة أجندات خارجية” ،وهكذا تُقبر الأسئلة الحقيقية التي يحتاجها المجتمع.
4-تشويه الوعي السياسي لدى المواطنين:
حين يتعود الرأي العام على الخطاب الشعبوي، يصبح الحكم على السياسيين بناءً على الشعارات بدل المشاريع، وهذا يؤدي إلى ضعف النضج الديمقراطي، وغياب الوعي الضروري للمشاركة المواطِنة الواعية، مما يحد من قدرة المجتمع على الضغط الإيجابي لفرض الإصلاحات.
5-تعطيل الزمن التنموي:
البلدان التي نجحت في تحقيق التنمية اعتمدت على التخطيط، الاستمرارية، والجرأة في الإصلاح، بينما الخطاب الوطنجي يبدد الزمن السياسي في معارك جانبية، ويجعل النقاش العمومي يدور في حلقات مفرغة بعيداً عن أولويات المواطن.
ما المطلوب لاستعادة النقاش العمومي الصحي؟
أولاً: تجديد الخطاب السياسي
بإعادة الاعتبار للغة الأرقام، الدراسات، البرمجة، والبدائل، وقطع الطريق أمام خطاب التضخيم العاطفي.
ثانياً: تعزيز دور المؤسسات المستقلة
كالمجلس الأعلى للحسابات، مجلس المنافسة، مراكز البحث، والجامعات، لرفع النقاش إلى مستوى علمي بعيد عن المزايدات.
ثالثاً: ترسيخ ثقافة النقد البناء
النقد ليس خيانة، والمعارضة ليست عدواً. إدراك هذه الحقيقة يفتح الباب لتعدد الأفكار بدل صراع الهويات.
رابعاً: الارتقاء بدور الإعلام
الإعلام مطالب بتقديم تحليل مهني، وعدم الانجرار إلى خطاب الانفعال أو الاصطفاف،دوره أن ينير الرأي العام، لا أن يتحول إلى منبر لترويج الوطنجية السياسية.
خامساً: إشراك المجتمع المدني
من خلال مبادرات للرصد والتحليل والوساطة، لضمان بقاء النقاش في سكته المؤسسية.
مخرجات هذا المقال ، إن النقاش العمومي الوطنجي لا يخدم المغرب، ولا يرقى إلى مستوى التحولات الكبرى التي تشهدها البلاد، التنمية الشاملة لا تُبنى بالشعارات، بل بالتوافقات، بالرؤية، بالتحليل الواقعي، وبالعمل المشترك، وعليه فإن العودة إلى نقاش سياسي رصين—يستحضر مصلحة الوطن الحقيقية لا المتخيلة—هي واجب وطني ومسار ضروري لتحقيق التقدم والعدالة والازدهار.



