حين يصبح الفهم تدريباً للذاكرة لماذا ينعش التعمّق في المشكلات قدراتنا الذهنية؟

ذا عمرو العرباوي/ مدير النشر
في عالم يمتلئ بالضغوط وتسارع الأحداث، لم تعد المشكلات مجرد عوائق يجب تجاوزها بسرعة، بل تحوّلت إلى فرص معرفية يمكن أن تعيد إحياء قدرات الإنسان الذهنية، خصوصاً الذاكرة، فالتعمّق في فهم أي مشكلة، مهما بدا حجمها أو نوعها، ليس مجرد تمرين عقلي عابر، بل عملية ذهنية غنية قادرة على شحذ الذاكرة وتنشيطها، وفقاً لما يشير إليه متخصصون في علم النفس الادراكي.
عندما يواجه العقل مشكلة جديدة، فإنه يبدأ تلقائياً بالبحث في أرشيف الذكريات عن معلومات مشابهة، حلول سابقة، أو تجارب ذات صلة، هذا البحث الداخلي يشبه عملية “تنظيف” لذاكرة الإنسان؛ إذ يعمل على إعادة ترتيب المعلومات، واستدعاء ما كان خاملاً منها، ثم ربط الجديد بالقديم.
وبحسب الخبراء، فإن هذا الربط بين المعرفة السابقة والمعطيات الجديدة يدفع الدماغ إلى إعادة تنشيط شبكاته العصبية، ما يرفع من درجة اليقظة الذهنية ويقوّي الذاكرة.
الفرق بين الفهم السطحي والفهم العميق أشبه بالفرق بين قراءة عنوان مقال وقراءة مضمونه كاملاً، التعمّق يفرض على العقل تحليل المشكلة من زوايا متعددة، وطرح أسئلة، وإعادة تقييم المعطيات. هذا الجهد المعرفي يشكّل تمريناً متكاملاً للذاكرة العاملة والذاكرة طويلة المدى على حد سواء.
فالإنسان حين يفكّر بعمق، يتذكّر، ويحلّل، ويقارن، ويسترجع خبراته، وكل تلك العمليات ليست مجرد استجابات، بل “تدريبات” عملية مستمرة للدماغ.
تؤكد الدراسات أنّ الذاكرة لا تعمل فقط على أساس تخزين المعلومات، بل أيضاً على أساس استدعاء الخبرات عند الحاجة. وعندما يتعمّق الفرد في المشكلة، فإنه يعيد تحريك ذلك المخزون الذهني، فيعيد ترتيب العلاقات بين الأفكار، مما ينعش الذاكرة ويزيد من كفاءتها.
بل إن بعض المتخصصين يرون أن مواجهة المشكلات بوعي تُعيد برمجة الدماغ بطريقة تجعله أكثر قدرة على تذكّر التفاصيل والتعلّم من الأخطاء، وهو ما لا يحدث عند التعامل السطحي أو الانفعالي مع المواقف.
لا يقتصر تأثير الفهم المتعمّق على تنشيط الذاكرة فحسب، بل يمتد إلى رفع مستوى المرونة الإدراكية، أي قدرة العقل على الانتقال بين الأفكار والاحتمالات، وكلما ازدادت مرونة الفرد في التفكير، أصبح أكثر قدرة على حلّ المشكلات واسترجاع المعلومات في الوقت المناسب.
مخرجات هذا المقال، إن التعمّق في فهم المشكلات ليس مجرد خيار فكري، بل حاجة معرفية تعيد للذاكرة نشاطها وتزيد من كفاءة الأداء الذهني. فكل مشكلة تُحلّ بعمق تترك في العقل أثراً تعليمياً طويل المدى، يجعل من الإنسان أكثر قدرة على مواجهة التحديات المستقبلية بثقة ووضوح.
وفي زمن تتزاحم فيه المعطيات، يصبح الفهم العميق، لا التجاوز السريع، هو الطريق الأمتن للحفاظ على ذاكرة حيّة وعقل يقظ قادر على البناء والتطوير.



