حوادث
انهيار العمارتين بفاس جرحٌ جديد يفتح ملف “مافيا العقار” وتقصير المراقبة في المغرب

ذا عمرو العرباوي / مدير النشر
مرة أخرى، يستيقظ حي المسيرة بمدينة فاس ليلة الثلاثاء على فاجعة إنسانية ثقيلة ، سقوط عمارتين ، حيث الحصيلة الأولية تشير إلى العديد من القتلى و الجرحى، وخلّف معها صدمة اجتماعية لا تختلف عن عشرات المشاهد التي عرفتها مدن مغربية في السنوات الماضية، تتكرر المأساة، وتتكرر معها الأسئلة ذاتها: إلى متى سيظل مسلسل سقوط البنايات قائماً؟ ولماذا تُزهق أرواح المواطنين بلا صوت رصاص ولا مدافع، بل بـ”جريمة صامتة” عنوانها الفساد، والإهمال، والعبث بأرواح الناس؟
حرب بلا بنادق ضحاياها مواطنون بسطاء
الفواجع المرتبطة بانهيار المباني ليست مجرد حوادث عرضية، بل تحولت إلى حرب غير معلنة، حرب لا تحتاج إلى أسلحة متطورة ولا طائرات مقاتلة، بل يكفي فيها تهاون مسؤول، أو جشع مضارب عقاري، أو توقيع على رخصة دون تدقيق.
بين كل هذه الدوامات، يقف المواطن البسيط أضعف حلقات السلسلة: يدفع ثمن ثقةٍ منحها لعمارة يفترض أنها آمنة، ولإدارة من المفترض أنها تراقب وتحمي.
لوبي العقار ثراء فاحش على أنقاض أرواح الأبرياء
لا يختلف اثنان أن جزءاً كبيراً من الفواجع المرتبطة بالبناء يعود إلى لوبيات العقار التي جعلت من التشييد تجارة مربحة مهما كان الثمن.
هؤلاء يعيشون حياة البذخ، بينما يقطن ضحاياهم شققا تُشيَّد بخامات مغشوشة، وبمعايير هندسية متجاوزة، وبـ”غض طرف” ممن تمتّعوا بصلاحيات الرقابة.
الخطير أن هذا اللوبي لا يتحرك وحده بل يتغذى من شبكة ممتدة تضم:
-متواطئين داخل بعض أجهزة المراقبة؛
-مهندسين يوقعون على ملفات دون معاينة حقيقية؛
-منتخبين يسهلون المساطر طمعاً في مصالح شخصية؛
-ووسطاء يُلبسون البناء العشوائي ثوب “الشرعية” عبر الرخص الاستثنائية.
غياب المراقبة الحلقة التي لا تزال مفقودة
من المفترض أن مراقبة البناء تمر عبر ثلاث مراحل أساسية:
1-المراقبة عند منح الرخصة؛
2-المراقبة أثناء الأشغال؛
3-المراقبة قبل التسليم وبعده.
لكن الواقع، كما تكشفه فواجع مثل فاس، يثبت أن هذه السلسلة تتعرض لانكسارات خطيرة:
-لجان لا تقوم بزيارات منتظمة؛
-تقارير شكلية تُحرَّر عن بُعد؛
-غياب تقييم صريح لشروط السلامة؛
-تراخٍ في مراقبة التوسع العشوائي؛
-وإهمال في متابعة الأشغال في الميدان.
فتح تحقيق ثم صمت طويل
في كل حادث مشابه، تصدر السلطات إعلاناً رسمياً بفتح تحقيق ومتابعة المسؤولين المحتملين.
لكن مع مرور الوقت، تذوب الحقيقة في زحمة الأيام، وتُطوى الملفات في رفوفٍ تغطيها الغبار، وتتحول الفاجعة إلى ذكرى حزينة يتداولها الناس لأسابيع ثم تختفي.
السؤال الذي يطرحه الرأي العام بإلحاح هو:
هل نحن أمام تحقيقات تُفتح لإطفاء الغضب؟ أم أمام إرادة حقيقية لاقتلاع جذور الفساد الذي يقف وراء كل جدار ينهار؟
حياة المواطن أليس من حقها أن تكون أولوية؟
إن ما يجري يطرح سؤالاً وجودياً:
هل حياة المواطن المغربي غير جديرة بالاهتمام الكافي؟
كيف يمكن قبول استمرار مسلسل الموت المجاني وسط وعود بالإصلاح وتحديث الإدارة وتحسين حكامة التعمير؟
أين هي العدالة العمرانية؟ أين هي المحاسبة؟ أين هي الشفافية التي تعيد الثقة بين المواطن والدولة؟
ما المطلوب اليوم؟
لوقف هذا النزيف المتكرر، لا بد من إجراءات واضحة وصارمة، من بينها:
-إعادة هيكلة منظومة المراقبة عبر لجان مستقلة لا تخضع لضغوط لوبيات المصالح.
-تشديد المسؤولية الجنائية في حق كل من يثبت تورطه في الغش أو التلاعب أو التقصير.
-اعتماد المراقبة الرقمية لمتابعة مراحل البناء وتوثيقها بشكل شفاف.
-النشر العلني لنتائج التحقيقات كي لا يطويها النسيان.
-تحصين منظومة التعمير من الرخص الاستثنائية التي أصبحت بوابة الفساد.
-تحميل المسؤولية المشتركة لكل الجهات: الجماعات، المهندسين، المنعشين، السلطات المحلية، شركات البناء، مكاتب الدراسات.
مخرجات هذا المقال ، إن فاجعة مدينة فاس ليست الأولى ولن تكون الأخيرة إذا لم يتحرك الجميع، وأن سقوط العمارتين بفاس ليس حدثاً عابراً، بل جرس إنذار جديد ينبه إلى أن الأرواح أصبحت مهددة بسبب فساد عمراني ممنهج.
وإذا لم تقم الجهات المختصة بتقصي الحقائق بصدق ومسؤولية، وتمنع لوبيات العقار من الإفلات من العقاب، فإن المشاهد المروعة ستتكرر، والمواطن سيظل يدفع فاتورة تخاذل الآخرين.
إنها دعوة صريحة إلى تغيير جذري لا يرحم الفاسدين، ولا يساوم على سلامة الناس، ولا يجعل من الحق في السكن اللائق مجرد شعار بل واقعاً يحمي حياة المواطنين قبل كل شيء.


