اخبار وطنية
المغرب وإصلاح السياسة الجنائية ، رحلة البحث عن عدالة متوازنة

ذا عمرو العرباوي/مدير النشر
تُعد السياسة الجنائية من أبرز المفاهيم القانونية التي تشغل بال المشرعين والفقهاء ورجال العدالة، ليس فقط باعتبارها إطاراً نظرياً لتنظيم قواعد التجريم والعقاب، بل أيضاً كأداة عملية لتحقيق الأمن والاستقرار وضمان الحقوق والحريات داخل المجتمع.
تعريف السياسة الجنائية لغة واصطلاحاً:
-لغةً: كلمة “السياسة” تعني التدبير والقيادة وإدارة الشأن العام، بينما “الجنائية” ترتبط بالجريمة وما يتصل بها من تدابير وقواعد. وعليه، فالسياسة الجنائية تعني في بعدها اللغوي تدبير شؤون الجريمة ومواجهتها.
-اصطلاحاً: هي مجموعة الوسائل والتدابير التشريعية والقضائية والإجرائية والوقائية التي تعتمدها الدولة من أجل مكافحة الجريمة والحد من انتشارها، مع تحقيق التوازن بين حماية المجتمع من جهة، وصيانة حقوق الأفراد وضماناتهم من جهة أخرى، إنها إذن فلسفة عامة ترسم ملامح المواجهة القانونية والعملية للجريمة، من لحظة التفكير في التجريم، مروراً بإجراءات المحاكمة، وصولاً إلى العقوبة أو التدبير الإصلاحي.
الغاية من السياسة الجنائية:
لا تقف السياسة الجنائية عند حدود الردع والزجر، بل تتجاوز ذلك لتشكل رؤية شمولية لها عدة أبعاد:
1-حماية النظام العام والأمن الجماعي: الجريمة تهدد الاستقرار، والسياسة الجنائية تأتي لتضمن حياة آمنة للمواطنين وتحافظ على السلم الاجتماعي.
2-إرساء العدالة والإنصاف: الهدف ليس العقاب من أجل العقاب، بل تحقيق عدالة منصفة تضع كل طرف في موقعه الصحيح، وتحفظ حقوق الضحايا والمتهمين على السواء.
3-الإصلاح وإعادة الإدماج: التوجه الحديث في السياسة الجنائية يركز على إعادة تأهيل المجرم وتمكينه من العودة إلى المجتمع فرداً صالحاً، بدل الاكتفاء بالزجر والعقوبة السالبة للحرية.
4-الوقاية قبل العقاب: الدولة الذكية هي التي تستثمر في التربية، التوعية، والعدالة الاجتماعية حتى لا يقع الفرد في دائرة الجريمة. فالسياسة الجنائية ليست فقط ما يحدث بعد الجريمة، بل ما يمنع حدوثها أصلاً.
5-التوازن بين الحريات الفردية ومتطلبات الأمن: الغاية النهائية للسياسة الجنائية هي تحقيق المعادلة الصعبة بين حماية المجتمع وضمان الحقوق الأساسية، فلا إفراط في الزجر ولا تفريط في الحريات.
تطور السياسة الجنائية في المغرب
في السياق المغربي، شهدت السياسة الجنائية تحولات عميقة تعكس تطور المجتمع ورؤية الدولة الحديثة:
-مرحلة ما بعد الاستقلال: اتجه المغرب نحو بناء ترسانة قانونية حديثة، متأثراً بالقوانين المقارنة، خصوصاً الفرنسية، من أجل ضبط الأمن الداخلي وحماية الدولة الفتية.
-مرحلة الإصلاحات الحقوقية: مع بداية تسعينيات القرن الماضي، بدأ الاهتمام يتزايد بالحقوق الفردية وضمانات المحاكمة العادلة، متأثراً بتوجهات العدالة الانتقالية وتوصيات هيئات الإنصاف والمصالحة.
-مرحلة الرؤية الملكية الحديثة: في عهد الملك محمد السادس، أصبحت السياسة الجنائية أداة للتنمية والعدالة الاجتماعية، حيث تم الدفع نحو إصلاح شامل للقانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، مع التركيز على بدائل العقوبات السالبة للحرية، تعزيز حقوق المرأة والطفل، ومحاربة الجرائم الاقتصادية والرقمية.
-البعد الدولي: المغرب تبنى التزاماته الدولية في مجال حقوق الإنسان، وأدخل تعديلات جوهرية لتتلاءم سياسته الجنائية مع المعايير الكونية، مما جعلها أكثر توازناً بين الردع والحقوق.
مخرجات هذا المقال ، تبعا لما جاء في سياق الحديث ، يمكن القول بأن السياسة الجنائية إذن ليست مجرد نصوص جامدة في قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية، بل هي منظومة فكرية وعملية متكاملة، تتغير بتغير المجتمع وتحولاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي المغرب، أصبح رهان السياسة الجنائية مرتبطاً أكثر بقدرتها على التوفيق بين حماية المجتمع وضمان الحقوق والحريات، وهو ما يعكس طموح الدولة في بناء عدالة قوية، حديثة،وانسانية .