اخبار منوعة

نوستالجيا أولاد كازا (5) المْسيـــــــدْ / الجَّـــــــامعْ

سعيد قاسمي
لا ريب أن مرحلة ما قبل التمدرس قضيناها نحن معشر أطفال الستينيات في المْسيدْ/ الجّامعْ الذي ترادفه لفظة تيمْزكيدا لدى الأمازيغ، أو ما يصطلح عليه اليوم بالكتاب القراني، بعد ما تمت عصرنته وفقَدَ الكثير من أساليب التعلم العتيقة .
كان إجباريا لدى الأسر أن يلتحق الأبناء قبل وصول سن التمدرس بالمْسيد، لخلق نوع من التوافق الاجتماعي داخل زُمرة الأنداد، وغرس بعض القيم الإسلامية في النفوس، وفوق كل هذا، حفظ سور من القرآن الكريم على يد فقيه يطلق عليه اسم عامْسْ، يعتمد في طرائق تعليمه على السماع والحفظ والاستظهار، مع التركيز على العقاب البدني، كوسيلة للترهيب، وهذا الأسلوب زرع فينا بذور الخوف والهلع منذ الصغر، لكنه ساهم في تقوية الذاكرة وتطوير مهارة التذكر .
عندما ولجت المسيد ملتحقا بأخي الذي يكبرني بسنتين، كان صعبا علي الاندماج في الأيام الأولى بسهولة، على اعتبار أن الانتقال من المحيط الأسري إلى فضاء التعلم، شبيه بنبْتَة تَمَّ نقلها من تربة إلى تربة أخرى، حسب العالمة الانجليزية سوزان إجاكس، فهي تحتاج إلى وقت لتستعيد بريقها وتتفتح، فكان طبيعيا أن أرفض الذهاب إلى المْسيدْ، خلال الأيام الأولى وأنخرط في بكاء هستيري من البيت إلى الجّامعْ، لكن مع مرور الوقت، تأقلمت مع الأجواء، ورضخت لأسلوب الحفظ والاستظهار كباقي المْحَضْرا الذين يتقاربون من حيث السن والبنْيَة .
أعتقد أن فضاءات المْسايْد في الدار البيضاء لا تختلف من حيث الشكل والتأثيث وأساليب التعليم، فكان الجّامعْ الذي احتضنني لأول مرة عبارة عن بناية من الخشب وسط حي كوزيمار بمنطقة مبروكة، مساحته لا تتعدى أربعة أمتار مربعة، يدخله الكافي من النور، أما التهوية فتدخل في حكم الغائب، لانعدام النوافذ وتكدس المْحضْرا. أما الفقيه الحاج عبد الرحمان الذي يشرف على تعليمنا، فقد كان ذا لحية بيضاء ووجه وضّاء، غالبا ما يجلس القرفصاء، عيناه السوداوان تحملقان تارة، وتستسلمان للنوم تارة اخرى، يمسك في يده عصا أو عمودا ينهر به رأس من أغفاه النوم من المْحضْرا، منبها إياه للانكباب على اللوح.
كنا نحن نجلس متقاربين، بل متلاصقين ومتربعين على الحصائر التقليدية لوقت طويل، ما يجعلنا أحيانا نفقد الإحساس بالأطراف، نتنافس على تزيين حناجر أصواتنا بالآيات القرانية، في حركات التموج إلى الأمام والخلف، وكل واحد يضع في يده عودا يُدعى التبّاع أو الكرّاك يحُكّه مع اللوح صعودا ونزولا خلال عملية الحفظ .
إن ما بقي عالقا بذاكرتي وذاكرة الذين تتلمذوا على يد عامس، هو يوم الخميس الذي يصادف عطلة نهاية الأسبوع، حيث كان كل واحد من المحضرا يعطي للفقيه قطعة نقدية بقيمة أربعة ريالات(عشرون سنتم) بالإضافة إلى قطعة من السكر وقليل من حبوب الشاي وبعض وريقات النعناع، وكان الفقيه يتكلف بتحضير الشاي وتوزيعه علينا، ثم يطلق سراحنا للاستفادة من التحريرة لمدة يومين، فأنخرط في الجري واللعب بشكل تلقائي مع اصدقائي، وهذه هي اللحظة التي أحس خلالها وكأن السعادة تتسلل إلى دواخلي، لكن لا أكاد أتذوق طعمها حتى يجرفها طوفان العودة إلى المسيد .
الأدوات الديداكتيكية في المْسايْد كانت بسيطة، تتمثل في لوح رقيق يضيق طرفه السفلي، وقلم يدوي مصنوع من القصب، ثم حبر محلي يسمى الصمغ أو السمق، بالإضافة إلى الصلصال الطبيعي الذي نستعمله في محو المُثبت من الآيات القرآنية على اللوح بعد الحفظ، حيث كنا ملزمين بالاستظهار اليومي، وفي حالة عدم تمكن أحد الحُضّار من الحفظ، فإن مصيره الفلقة أو التحميلة، وهو عقاب يدعمه الأباء ويشجعون الفقيه على ممارسته .
الملاحظ أن أغلب المحضرا غادروا المْسيدْ مُجبرين لإعفاء وتحرير أجسادهم من عقاب الفقيه، فرغم أن حفظ سور من القرآن الكريم هدف نبيل، وتعلم الكتابة على اللوح مهارة منشودة، فإن الطريق المؤدية إلى تحقيق ذلك، ليست مفروشة بالورود، بل تعترضنا بعض الأشواك المؤلمة، حيث كنا نحس وكأننا داخل معتقل بسجَّان واحد، يُؤْمنُ بالتعذيب ويزرع الترهيب، لذلك كنا نبحث عن أساليب للهروب من فضاء المْسيدْ كلما أتيحت لنا الفرصة، بل كنا نبدع في خلق سيناريوهات للتخلص من حصة حفظ الآيات داخل الجّامعْ، سيما ونحن في حاجة ماسة لإشباع رغباتنا من اللعب الطفولي .
كان الفقيه ينام بعد الظهر واضعا رجليه على الباب، تحَسُبا لأيّة محاولة هروب، وهي اللحظة التي كنا ننتظرها لمغادرة فضاء المْسيدْ، حيث نتناوب على تخطي العامس في هدوء تام، لكن حَدَثَ ذات مرة أن التقت رجلي بركبة الفقيه، فسقطت أرضا أمامه، فأمسك بي، ونلت من العقاب ما كان شديدا ومتنوعا، ابتدأ بالقرص المؤلم، وانتهى بإتمام الحصة واقفا، مرورا بتحميلة قاسية .
الجميل في التعلُّم داخل المْسيدْ، هو عندما يتمكن أحدنا من حفظ حزب، يقوم الفقيه بتزويق لوحته، ويعين بعض المْحضْرا لمصاحبته إلى البيت، وهم يرددون:(طالب طالب يايو، أسعدات مّو وبّاه، أمُولاتْ الخيمة، أعطيني بيضة، باش نْزوّقْ لوحتي..) وتكون عائلة المُحتفَى به في الاستقبال بالزغاريد، فيتناول الجميع الشاي والحلوى، وكنا نتنافس على الحفظ، لإنهاء حزب والانتقال إلى حزب آخر في وقت قياسي، كي نحظى باحتفال داخل المْسيدْ وفي البيت .
لا أنكر فضل المْسيدْ على مسيرتي الدراسية، فقبل ولوجي القسم الأول من المدرسة الابتدائية، كنت أحفظ عددا من السور القرآنية، وبعض الأبيات من مَتْن ابن عاشر، كما كنت أتقن القراءة والكتابة، فعلى المستوى القرائي، تمكنت في البداية من ترديد الحروف الهجائية بطريقة ( اللّيفْ ما ينقُطْ، الباء وحْدَة من تحْتْ، التّاء جُوجْ من فُوقْ..) ثم انتقلت إلى فك الرموز بالترتيب الأبجدي: (أبَجدْ، هَوَزِ، حُطَيّ، كَلَمنْ..) بالإضافة إلى قراءة الآيات القرآنية بربط المنطوق بالمكتوب، أو ما يعرف حسب المستجدات الحالية بالمبدأ الألفبائي أو التطابق الصوتي الخطي .
وعلى مستوى الكتابة، كنت أرسم جميع الحروف رسما صحيحا، فبعد مرحلة التّحْناشْ الخاصة بالمبتدئين، حيث الفقيه يقلب القْلْم ويكتب تاركا أثر الكلمات على اللوح لأتبعه بالصمغ، انتقلت إلى مرحلة إملاء الآيات، كما شكلت محطة المسيد التي توقفت بها لسنوات، بداية لنسج علاقة عشق بفن الخط، فَنَمَا هذا العشق وتحول إلى مهارة يدوية، صقلتها بتعلم قواعد الخط العربي، حيث سأصبح فيما بعد، خطاطا أكتب بالصباغة على الواجهات واللافتات .. ومن بين العناوين التي كتبتها على الحائط سينما العثمانية وكان ذلك بتاريخ 1976 .
وختاما ألخص علاقتي بالمْسيدْ في كلمتين : شكرا عامس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى