اخبار منوعة
إذا رأيت الناس يتخلون عنك في وقت الشدة فاعلم ان الله يريد ان يتولى امرك

عمرو العرباوي / مدير النشر
عبارة “إذا رأيت الناس يتخلون عنك في وقت الشدة، فاعلم أن الله يريد أن يتولى أمرك” تحمل في طيّاتها معنىً عميقًا مرتبطًا بالتوحيد، والتوكل، والابتلاء، والحكمة الإلهية في تصريف الأمور.
وسنقوم بتفسير هذه العبارة من عدة زوايا: عقائدية، نفسية، وسلوكية، مع تقنينها بأمثلة من الواقع ومن السيرة النبوية.
أولا : المعنى العقائدي: عندما يبتعد عنك الناس في وقت حاجتك، قد يكون في الأمر ابتلاء واختبار لإيمانك، ولكن في ذات الوقت هو رحمة خفية، لأن الله يبعد عنك الأسباب الظاهرة لكي تتوجه إليه وحده دون غيره، فالاعتماد الكلّي على البشر قد يُضعف علاقتك بالله، ولهذا يُفرغك الله من حولك لتعلم أن لا حول لك ولا قوة إلا به.
الآية الداعمة: “أليس الله بكافٍ عبده” (الزمر: 36).
ثانيا : المعنى النفسي والروحي: قد يشعر الإنسان بالخذلان والمرارة حين يُترك وحيدًا، ولكن من الجانب الروحي، فإن في هذا الانقطاع تقوية للعلاقة مع الله، لأن النفس تتجه حينها إلى السماء بعد أن سُدّت في وجهها الأبواب الأرضية، هذا الانقطاع قد يكون بداية نقلة روحية عظيمة.
ثالثا : تفسير الظاهرة من زاوية الحكمة الإلهية: الله سبحانه وتعالى يعلم أن بعض الناس ليسوا أهلاً لحمل همّك أو مشاركتك في ضيقك، وربما كان اعتمادك عليهم ضارًا لك في المدى البعيد، فحين يتخلّون عنك، فربما الله ينقذك من تعلقٍ خاطئ أو من فتنة قادمة.
رابعا : أمثلة من الواقع والقصص النبوية:
1-النبي أيوب عليه السلام:
ابتُلي في جسده وماله وأهله، وتركه الناس، لكنه صبر، وتولى الله أمره، فجاءه الشفاء والفرج من حيث لا يحتسب.
“وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين” (الأنبياء: 83)
2-النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الطائف:
طُرد، ورُجم بالحجارة، وتخلى عنه الناس، لكنه لجأ إلى الله، فجاءه جبريل يعرض عليه أن يطوي عليهم الجبل، فاختار الرحمة، ثم كان النصر لاحقًا.
قال صلى الله عليه وسلم في دعائه المؤلم:
“إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي…”
3- من الواقع المعاصر:
رجل فقد عمله ودعمه الاجتماعي، حتى أقرب الناس إليه تخلوا عنه، لكنه توجه بالدعاء والعمل الصادق، ففتح الله له باب رزق من تجارة صغيرة بدأها وحده، وأصبح بعد حين سببًا في توظيف الآخرين.
الناس غابوا، والله تولى أمره.
خامسا : كيف نتعامل مع هذا الموقف عمليًا؟
-لا تتعلق بأحد تعلقًا مطلقًا، فالبشر يتغيرون والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن.
-اجعل لحظات الوحدة فرصة لمناجاة الله، فالخلوة قد تكون أحلى من كل صُحبة حين تُعمر بالذكر.
-تيقن أن الله أقرب إليك من حبل الوريد، وهو الذي يعلم حاجتك حتى قبل أن تنطق بها.
سادسا : لماذا يختار الله أن يتولى أمرك بنفسه؟
لأن في تولي الله لك:
-رحمة أعظم من كل رحمة:
فالله يعلم مكامن ضعفك وحاجتك، ويدبّر لك الأمر من حيث لا تدري، بل يهيئ لك أسباب النجاة قبل أن تقع في المصيبة أحيانًا.
-علمٌ لا يخطئ، وعدلٌ لا يظلم، ولطفٌ لا يُدرَك:
البشر قد يُخطئون في تقدير حاجتك، قد يخافون أو يخذلونك، أما الله فلا ينسى، ولا يغفل، ولا يتأخر، بل يختار لك ما هو خير، ولو تأخر.
-تربية إيمانية خاصة:
حين ينقطع عنك الناس، ويُغلق في وجهك كل باب، يبقى باب واحد مفتوح: باب الله، وهذا أعظم مدرسة إيمانية يتخرج منها العارفون والصابرون والمحبّون.
سابعا : حين يتخلى الناس، الله يُقربك إليه، قد يكون التخلي الذي شعرتَ به، في ظاهره قسوة، لكن في حقيقته فرصة نادرة للقرب من الله، كم من إنسان اقترب من الله في أصعب لحظات حياته، ووجد في الصلاة والذكر والقرآن سكنًا لا يُضاهى، وطمأنينة لا تُشترى.
“إن مع العسر يُسرًا” (الشرح: 6)
هذا وعد، أن كل عسر تحمله بداخله مفاتيح الفرج، ولكن بشرط أن ترى الأمور بعين الإيمان لا بعين الجزع.
ثامنا : كيف نستثمر لحظة الخذلان؟
-تحويل الألم إلى وقود روحي:
بدل أن تحزن على من خذلك، احمد الله أنه نزع من قلبك تعلقًا بغيره.
قُل: “يا رب، ما دام الناس قد خذلوني، فأنت حسبي وكافي.”
-اجعل وحدتك بوابة إلى العمق:
اقرأ، تأمل، صلّ، ناجِ الله، اكتب دعاءك، ابكِ بين يديه، فربما في هذه اللحظة يُكتب لك نصرٌ لا يُرى الآن، ولكنه قادم.
تاسعا : كلام العارفين والحكماء في المعنى:
-قال الإمام الشافعي:
“توكلت في رزقي على الله خالقي … وأيقنت أن الله لا شك رازقي”
-وقال ابن القيم:
“لو كشف الله لك كيف يدبّر أمورك، وكيف أن الله أكثر حرصًا عليك من أمك، لذاب قلبك محبة له.”
خلاصة القول، إن الناس يتخلون، لكن الله لا يتخلى، قد تكون الوحدة ابتلاء، لكنها أحيانًا تذكرة بأنك غني بالله ولو افتقرت إلى كل من حولك، فحين تضيق بك الأرض، وتُغلق الأبواب، تذكّر أن باب السماء دائمًا مفتوح.