اخبار منوعة

الجُـــنــدي الـذي حَــارب من أجــل الحُــريــة “رحّال قاسمي”

بقلم سعيد قاسمي
في الذكرى الرابعة لوفاة والدي (22 فبراير)
الجُـــنــدي الـذي حَــارب من أجــل الحُــريــة
عاش والدي مائة سنة إلا سنتين، وعلى امتداد هذه المساحة العمرية، كان يتخذ كشعار له (كفاح كلها الحياة) لكن المرحلة التي كان والدي يعتز بها ـ رغم قصرها ـ ويُسهب في الحديث عنها، تلك التي قضاها في سلك الجُندِية كمُحارِب يدافع عن تحرير فرنسا.
كان رحّال قاسمي والدي، النازح من دوار أولاد قاسم بدائرة أولاد فارس إحدى قبائل امزاب، متشبعا بقيم الوطنية. فلم يَدَّخِر جُهدا في تلبية نداء الانخراط في سلك الجندية، والدفاع عن فرنسا من بطش النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، استجابة لنداء السلطان محمد الخامس، وهو النداء الذي جاء على شكل بيان تمَّت تِلاوته في المساجد، حيث دعا فيه المغاربة إلى الدفاع عن فرنسا في المعارك التي ستخوضها إلى جانب الحلفاء ضد النازية والفاشية.
كان رحال المزابي مَمْشوق القِوام، مُحِبا للمرح والمُداعبة، ولم يكن يمل الحديث عن بَسَالتِه كمحارب في صفوف الجنود الفرنسيين، وهو الذي رضع حليب البادية، وترعرع بين هضابها وسهولها، حيث كان يحكي عن تجربته العسكرية بكل افتخار قائلا: (ركبنا باخرة غواصة من الجزائر في اتجاه جزيرة صقلية (شيشيليا) جنوب إيطاليا. ومن هناك دخلنا ساحة الوغى، حيث انطلقت المعارك، وقد أنقدت جنديا أصيب برصاصة، بعدما حملته على كتفي بكل بسالة وشجاعة، ما جعلني أتوج بصليب الحرب).
غادر والدي رحمه الله سلك الجندية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبقي يستفيد من معاش زهيد، رغم اشتغاله في شركة بوجو للسيارات، لكنه لم ينس تجربته العسكرية كمحارب تحت الراية الفرنسية، ولم يحظ بلحظة اعتراف معنوي؛ إلا بعد مرور أزيد من سبعين سنة على مشاركته في الحرب.
لم يكن الحاج رحال المزابي يتوقع أن موكبا لمسؤولين من السفارة الفرنسية، قادما من العاصمة الرباط، سيزوره في بيته بأحد أحياء مبروكة، وتحديدا بمنطقة اشطيبة، وسيقدم له التحية العسكرية كاعتراف بما أسداه من خدمات لفائدة الجمهورية الفرنسية. كان الموكب يتشكل من سيارتين ذات ترقيم ديبلوماسي، توقفتا بباب منزل الحاج رحال قاسمي يوم الجمعة سابع وعشرين مارس 2015 في حدود الساعة العاشرة صباحا، وبداخلهما ست شخصيات، يتقدمهم عسكري يعتبر الرجل الثاني بعد السفير الفرنسي في المغرب، وهو برتبة عقيد، يرتدي الزي العسكري، وقد انتشرت على صدره عدة أوسمة مختلفة. وعندما وقف أمام الحاج رحال الذي كان مُمَدَّدا كعادته جراء حالته الصحية المتدهورة، قدَّم له تحية عسكرية إجلالا واحتراما واعترافا.. قبل أن يصافحه ويهمس في أذنه (فرنسا تفتخر بكم وبأمثالكم).
وضع المسؤول العسكري قُفَّازين ناصعي البياض في يديه، قبل أن يَتَسلَّم من أحد مرافقيه بيانا رسميا، ويشرع في تلاوته باللغة الفرنسية على مسامع والدي الذي اكتفى بالإنصات، حيث تعذر عليه فك رموز كلمات نص البيان، الذي يحمل بين حروفه ما يفيد: (وجودنا الآن معك في بيتك، هو اعتراف بما أسديته للجمهورية الفرنسية من خدمات وتضحيات خلال الحرب العالمية الثانية. وباسم جمهورية فرنسا، سأوشح صدرك بوسام اعتراف).
وجود الوفد أمام الحاج رحال، أعاد إليه جزءا ضائعا من نفسه، طالما بحث عنه. كان ذلك حُلمه القديم الساكن في نبضات قلبه، ركنه لوقت طويل في أحد قمطرات مُخِّه، قبل أن يعيشه بمنزله، في لحظة اغرورقت عيناه بالدموع، وهو الذي لم يقو على النهوض لوحده. وبعد أن ساعده ابنه مصطفى الذي يعيش معه، ويسهر على راحته على الوقوف، تقدم الكولونيل وَوَشّح صدر والدي بوسام الجمهورية الفرنسية، على إيقاع بروتوكول خاص، أمام عدسات كاميرا الوفد الفرنسي.
هي لحظة اعتراف عاشها هذا الشيخ الذي انخرط في سلك الجندية من منطقة امزاب، وعمره أنذاك أقل من عشرين سنة، وتوج بصليبي حرب، قبل أن يُنْهي العقد الذي يربطه بالخدمة العسكرية، والممتد لست سنوات كاملة.
ورغم أن أجرة المعاش قليلة جدا، ولا تتعدى ستمائة درهم؛ فإن زيارة الوفد الفرنسي تركت في نفسية الحاج رحال أثرا عميقا، وأحس أنه جندي بطل، ومحارب باسل، حيث منحته هذه الزيارة فرصة استعادة شريط خدمته العسكرية، وشكَّلت عُربون وفاء وتقدير واعتراف ببطولة جندي يَعتزُّ بكونه رقما ضمن قائمة قدماء المحاربين، ويفتخر بالانتماء إلى صفوف الجنود الذين عن الحرية كانوا مدافعين.
نم قرير العين في قبرك أيها الجندي البطل. لروحك الطاهرة والدي السكينة والسلام.
في الصورة والدي يحمل سلاحه، وكله حيوية للدفاع عن الحرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى