اخبار وطنية
نــوستــالجيــا (24) دفــــــــتر الــذكــريــــــات
سعيد قاسمي
دفتر الذكريات، هكذا كنا نسميه، هذا الدفتر يفتخر أنه لا يشبه الدفاتر من حيث الحجم، ومن حيث المحتوى، وحتى من حيث الاستقرار داخل المحفظة.. حيث يحلو له أن يُخاطِب باقي الدفاتر بما يشبه الاستعلاء
(أنا أحظى بالعناية يوميا، فمظهري الخارجي مُثير رفيع، وصفحاتي تعيش على إيقاع التنويع. أحُلُّ ضيفا مُعززا، وأَبِيت الليالي عند الأصدقاء مُكرما..) وفعلا، كان دفتر الذكريات يلقى اهتماما خاصا، فغالبا ما كنا نفضل أن يكون من الحجم الكبير، وتتعدى صفحاته مائتي صفحة بكثير، ونختار له غلافا جميلا يوازي المساحة التي يحتلها داخل قلوبنا، ويليق بما تتضمنه صفحاته من تعابير. فلم يكن دفتر الذكريات يعرف الاستقرار، بل كان يَعزِف سمفونية التِّجوال بين المحافظ والبيوت والأوكار، حيث يترك كل من حلَّ عليه هذا الدفتر ضيفا بصمة خاصة به، ويجتهد كل من تسلمه في أن يكون في مستوى التشريف الذي حظي به، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالجنس الآخر.
الرغبة الملحة في إعداد وتهيئ دفتر الذكريات، كانت تدفعنا إلى إضافة دفتر من حجم كبير إلى لائحة الأدوات، دون مراعاة ما يتحمله الآباء مع حلول كل موسم دراسي من مصاريف ونفقات، لأن إعداد مثل هكذا دفتر مفخرة بين التلاميذ والتلميذات، سواء داخل الثانويات، أو خارج هذه الفضاءات، ذلك أن ظاهرة دفتر الذكريات كانت متفشية خلال محطة سلك الإعدادي التي تجمع المراهقين والمراهقات.
أتذكر ويتذكر معي مراهقو ومراهقات سنوات السبعينيات أن دفتر الذكريات، تم استعماله من قبل البعض كطُعم للتقرب من الجنس الآخر، خصوصا وأن الثانوية آنذاك لم تكن تعرف الاختلاط داخل الأقسام. فكان الفتى يتباهى أمام أصدقائه بما كَتَبَتْ له إحدى الفتيات، معتبرا استجابتها وقبول دفتر الذكريات كضيف عليها، لتدوين اسمها ومشاعرها، فخرا واستعلاء.. ومع ذلك، فالمشاعر التي تُدوَّن على هذا الدفتر، كانت بريئة، والأفكار كانت نظيفة، مثل أوراق أشجار الصنوبر المغسولة بمطر الصيف.
الصفحة الأولى، كنا نخط عليها بخط عريض(دفتر الذكريات)، وغالبا ما تخصص الصفحة الثانية لصورة تذكارية، فيما نجعل من الصفحة الثالثة بطاقة تعريف نُدوِّن عليها الاسم والنسب والمستوى الدراسي، مع الإشارة إلى بعض الهوايات التي نحصرها في نوع رياضي، أو أكثر، مع التركيز على المطالعة التي كنا نغتال بها الضجر، ونرفع بواسطتها منسوب الرصيد اللغوي. أما هواية السفر، فكانت تدخل في حكم الغائب، على اعتبار أن السفر، لم يكن آنذاك يدخل في ثقافة آبائنا، ولأن الوضع السوسيو اقتصادي، لم يكن يسمح بإدخال هذه الهواية ضمن طقوس عائلاتنا.
الرياضة والمطالعة، هِوايتان ينميان عدة مهارات في شخصية الفرد، وكان تلاميذ الصف الإعدادي جلهم، أو كلهم، يمارسون هاتين الهوايتين. وقد لا أكون مجانبا للصواب، إذا جزمت بأن بذرة عشق قراءة الروايات، حرصنا نحن جيل زمان على غرسها في مرحلة الإعدادي، وبدأت تعطي بعض ثمارها على صفحات دفتر الذكريات، من خلال الجمل المرصعة التي نختارها ونحن نُعبِّر عن مشاعرنا اتجاه صاحب الدفتر، وقد شكلت هذه التدوينات أولى إرهاصات الكتابة لدى العديد من مراهقي زمان، الذين أضحوا كتابا وشعراء وصحفيين..الآن.
لاأخفي، أني عندما بدأت أكتب عن دفتر الذكريات، شعرت برغبة الحياة تتدفق في جسدي، وبات الفرح ينفجر كطوفان في داخلي ، وأنا استدعي صفحات هذا الدفتر، واستحضر بعض أسماء الأصدقاء الذين تناوبوا على تخطيط مشاعرهم وتثبيت صورهم .. لكن للأسف الشديد، لم أحتفظ بهذا الدفتر.
صديقي بوشعيب، الذي كان يشتغل كمدرس قبل الإحالة على التقاعد، والذي تقاسم معي مرحلة الدراسة بالسلك الإعدادي، أكد لي أنه مازال يحتفظ بدفتر الذكريات يعود لموسم 73/74 وبعث لي مشكورا بصفحات منه عبر الواتساب. فلم أكتف بالاطلاع عليها مرة أو مرتين، أو حتى ثلاث مرات، لأني وجدت فيها ضالتي، وأعادتني أكثر من أربعة عقود إلى الوراء. ولولا التعاقد الشفهي الذي نسجته مع صديقي بوشعيب، والمتمثل في الاحتفاظ بهذه النماذج لوحدي، لَتقاسمتُها معكم، ليتأكد لكم قيمة هذا الدفتر، ودرجة التنافس على اختيار التعابير الرنانة بين تلاميذ وتلميذات الصف الإعدادي.
يا من أعدَّ وهيَّأ دفتر الذكريات، خلال فترة الدراسة بإحدى الثانويات، هل تستحضر الآن من هذا الدفتر بعض الصفحات؟ وهل تتذكر بعض ما تقاسمه معك الأصدقاء والصديقات من تدوينات؟ فما أحوجني إلى إغناء النص بالتعليقات؟